قراءة في كتاب “الاغتراب في الثقافة العربية” من تأليف المفكر السوري د حليم بركات.
“لا شيء يحطم النفس ويتعبها أكثر من التواجد في مكان تدرك أنها لا تنتمي إليه، مع أُناس لا يشبهونها، ومع إهدار الكثير من الطاقات في قرارات يومية مطلوب عملها لكنها لا تطاق، لا تطاق وتُثقل الصدر!” تشيخوف….. عديدة و متنوعة المعاني التي عرف بها المفكرون و الفلاسفة و علماء النفس الاغتراب، الا انها تشترك في إبراز الشعور بالعجز و الشعور بالزيف او عدم الأصالة.. الشعور بالعجز.. الإنسان المغترب دائما ما يشعر بالعجز .
و المقصود بالعجز احساسه العميق انه في ورطة لا يدري كيف احاطت به بإحكام و الادهى انه لا يستطيع بأي حال الخروج منها مهما استخدم حيله و عقلانيته ما يصيبه بالتوتر و الاكتئاب و الاحباط و اليأس و العدوانية و الشعور بالتيه و الانفصال عن ذاته و عن محيطه.
لسنا بصدد الحديث عن موقف او فترة عابرة في حياة انسان من الممكن نسيانها ببعض العزيمة و لكنها حياة كاملة يتم معايشتها تحت ضغط هذه المشاعر القاسية و في الغالب تنتهي مع شعور عميق بالسراب و الخواء و الحزن الغير معروف المصدر، تتسرب هذه المشاعر بوعي و دون وعي. الشعور بعدم الأصالة. إلى جانب الشعور بالعجز، هناك الاحساس الدائم بعدم الأصالة.
انا لست أنا، اؤدي دور فرضه علي المجتمع، من الابن الخاضع إلى الاب المهيمن إلى الأم المملوكة والمتملكة إلى المواطن المقهور او حتى الموظف القاهر، العامل، رب العمل، تضيع حياة الإنسان في ممارسة أدوار دون فصل حقيقي بينها و بين ذاته الحقيقية. وسط فوضى الأدوار المفروضة تندثر شخصية الإنسان الأصيلة، حتى يتملكه شعور انه غريب عن أقرب الناس اليه في سياق لعبة الأدوار.
هل يحب هذا الزوج حقا زوجته؟ ام ينتظر منها الامومة و ترتيب شؤون مشروعه الحياتي؟ هل يدركها كإنسانة ام يعرف فقط حاجته منها؟ و هكذا الابن و الابنة و الام و المواطن و الموظف؟ ماذا نمثل لبعضنا؟ هل ضاع الإنسان الأصيل داخلنا؟ هذا الإنسان الفريد من نوعه بخصوصيته و ميله و فرادته؟ ماذا يمثل لنا الاخر اذا أخرجناه من دائرة الأدوار ؟ و هل من السهولة بمكان الخروج من لعبة الأدوار و محاولة التعرف على الآخر لذاته؟ او حتى ادراك ذواتنا بعيدا عن ما فرضه علينا الاخر مهما كان؟ ماذا بقي منا بعد رحلة طويلة في مجتمع سلطوي، ابوي، حيث تم تشكيلنا بما يناسب مصالح من امتلكنا، سواء كان هذا المالك أب او أم ، أخ كبير أو كاهن او طبقة او معلم تابع لنظام سلطوي او مؤسسات تربوية ابوية.
هل نحن فعلا ما نحن عليه؟ أم اننا في حالة اغتراب؟ و كيف تتجلى حالة الاغتراب تلك؟ عندما يفشل الإنسان في اكتشاف ذاته، سيفشل بالفعل في تأكيدها و عندما يفشل في تأكيدها يصيبه وهن و شعور دائم ان هناك ما ينغص عليه سكينة روحه لكنه لا يدري ماهية هذا الشيء.
المال و السلطة و الأسرة و الأدوار و الركض و الشهرة، و رغم ذلك ما زال الشعور بالسراب و عدم الامتلاء الذاتي، ما زال الشعور بالانفصال العميق عن ذواتنا الحقيقية. هناك من لا يعي شعوره بالعجز و عدم الاصالة و ما يرتبط بهم من إحباط و قلق و توتر و اكتئاب ووهن و حزن، يعايش هذه الاحاسيس دون وعي حقيقي بجذورها الممثلة في مجتمع سلطوي سرق منه ذاته و أصالته و حوله الى مجرد دور لاستغلاله كترس في آلة استغلال مهولة.
و هناك من يعي الاسباب و يدركها لكنه رغم ذلك لا يستطيع الفكاك من أسر المجتمع و الظروف و بالطبع صاحب الوعي مأساته اكبر و أقسى، لأنه يدرك النهاية و لا تجدي معه اوهام الإيمان و الخلاص و الصبر و تبريرات التضحية و الكفاح. في كتابه “الاغتراب في الثقافة العربية” يضع د حليم بركات الإنسان _بوجه خاص العربي_ وجها لوجه أمام مسببات اغترابه ليخرجه من حالة اللاشعور إلى الشعور. لذلك جاءت قراءتي لهذا الكتاب مختلفة و مؤلمة في ذات الوقت. مختلفة لأنها جعلتني على وعي أعمق بالأسباب و مؤلمة لأنني بالفعل عاجز عن تجاوز حالة الاغتراب.
في كل الأحوال اتاحت لي قراءة الكتاب شكل من أشكال التفريج، شعورا مني أن المؤلف رغم علمية الكتاب كان يطهر ذاته بالبوح و كنت بدوري اتطهر معه. و يأتي عرضي للكتاب استمرارا لحالة البوح مع السماح لنفسي بمشاركة المؤلف بعض خواطري بعد احساسي العميق بفكرة الكتاب و اسلوبه و حرفه الخبير الذي حلل الذات العربية بدقة تنم عن جهد بحثي و فكري و تحليلي مهول و مختلف و موجع. يشكل كتاب الاغتراب في الثقافة العربية مع كتاب المجتمع العربي المعاصر بحث استطلاعي، موسوعة اجتماعية و نفسية و سياسية لمن أراد فهم الذات و البنية العربية و همومها و اغترابها. فكرة الكتاب…. يبدأ د بركات بعرض معاني الاغتراب وفقا لرؤى الفلاسفة و علماء النفس من أمثال هيدجر، سارتر، دوركايم، سارتر، ماركس، هيجل، فرويد ثم يحاول تحديد المشترك مقتحما السياق العربي و مصادر الاغتراب داخله كالتبعية و التفتت و السلطوية.
ينطلق بعدها في تفصيل دقيق لماهية الاغتراب العائلي و السياسي و الديني داخل السياق العربي، يأتي ذلك موازيا لعرض أدبي شيق و عميق، د حليم بركات إلى جانب تخصصه الاجتماعي هو أيضا أديب قدير و له العديد من الأعمال الروائية، يعرض د بركات روايات الخضوع و الهروب و التمرد و المواجهة في الأدب العربي الحديث و المعاصر و يبتكر بمهارة و حرفية تصنيفا جديدا للمنتج الروائي و المسرحي العربي وفقا لخصائص نفسية و اجتماعية تتمثل برواية الخضوع كما مثلتها ثلاثية محفوظ و رواية الهروب و الاي مثلتها على سبيل المثال رواية ثرثرة فوق النيل لمحفوظ، رواية التمرد الفردي مثل “انا أحيا ” الروائية اللبنانية لينا بعلبكي.
و أيضا روايات التمرد السياسي و الاجتماعي أرض عبد الرحمن الشرقاوي و أعمال ادوارد الخراط و جبران و كنفاني و غيرهم. و ينتهي الكتاب برؤى المؤلف كحلول لتجاوز حالة الاغتراب. ملحوظة :بإمكان القارئ الاستفادة المعرفية من حلقة واحدة، دون ارتباط بالتسلسل او حتى قراءة كل الحلقات..
متوفر لدى مكتبة مستغانم ياسمين الغرب #الاغتراب_في_الثقافة_العربية متاهات الإنسان بين الحلم و الواقع .